إن أهل الرأي بافتراضاتهم وتعليلاتهم قد يؤصلون لما فيه حرج ومشقة، ونحن لا نعترض على الفقه لأنه فقه، لكن الاعتراض هو على هذه الافتراضات وما فيها من حرج ومشقة وتكلف فيما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن منهج السلف الصالح في معالجة الواقع.. حتى إن بعض الكتاب المعاصرين المشكوك في التزامهم وتدينهم، أصبحوا يتخذون من أمثال هذه الأمور حجة وذريعة، ويقولون: الدين للواقع؛ وهم متأثرون في هذا بالنظريات الماركسية حينما قالوا: إن علماء الدين يشتغلون بمجالات عقيمة، ويتركون واقع الناس.. الظلم والفقر والجهل يسحق الطبقات الدنيا، وعلماء الدين مشغولون بالمسائل الافتراضية، وهذا الكلام يقوله الشيوعيون ويرددونه أثناء كلامهم عن رجال الدين النصراني، فجاء هؤلاء واستقوا هذا المنهج، ووجدوا أن بعض الفقهاء يشتغل بالخيالات وبالأمثلة التي لم تقع ولن تقع، وهي كثيرة جداً في كتب الفقه المتأخرة، فقالوا: يجب أن يكون الدين للواقع، ويجب أن يشتغل العلماء بالواقع.
وفي المقابل وجد أناسٌ عرفوا سر هذه المسألة من المجرمين أو المنافقين، فأرادوا أن يشغلوا الأمة ويشغلوا علماءها بهذه الأمور عن الواقع؛ أي أنه وجد اتجاه معاكس يقول: لا يجوز أن يشتغل العلماء بواقع الناس.. فمثلاً: الزنا انتشر في العالم، وكذلك الاختلاط والتبرج، وكثر الفساد فهم لا يريدون أن ينتبه العلماء إلى هذا وأن يتحدثوا عن أسباب هذه الفواحش، وكيف يمكن إزالتها، فيشغلونهم مثلاً بطفل الأنبوبة وأحكامه ورضاعه ونحو ذلك، فيجتمع العلماء ويشتغلون ويفكرون ويقولون: هذه المسألة مشكلة.. ويشغلونهم أيضاً بما إذا قطعت يد السارق هل يجوز أن تعاد بعملية جراحية أم لا يجوز؟ هذا مع أن حد السرقة لا يقام في أكثر دول المسلمين، ومع ذلك يسألون العلماء في بلاد كثيرة في الشرق والغرب: هل يجوز أن ترجع اليد أو لا ترجع؟ وهكذا أمور نادرة أو قليلة افتراضية ومثيرة للناس، وكثير من الناس أو العامة عقولهم مثل عقول الأطفال، فإذا رأوا الشيء العادي لا يثيرهم، وإذا رأوا شيئاً غريباً أثارهم ولو كان لا قيمة له ولا تأثير، ولا يعنيهم في شيء من أمورهم.
فهم يأتون بأمثال هذه الأسئلة في مجلات الضرار، وفي جرائد الضرار، وفي برامج الضرار، ويشغلون العلماء بها، فيأتي الملحدون والشيوعيون ويقولون: الدين للواقع؛ فلم تشتغلون بهذا وتتركون الجماهير وتتركون الظلم وغيره؟ فيجد هؤلاء فرصة، ويجد هؤلاء أيضاً فرصة، والخسارة تكون على الأمة وعلى علمائها، وما ذلك إلا نتيجة مخالفة منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في طلب العلم وفي منهجه، وأنه لا يشتغل الإنسان بالإجابة إلا إذا علم من السائل أنه مستفهم يريد أن يعرف دينه وأن يعبد ربه، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يعرفون الواقع فعلاً، وكانوا يعلمون كيف يجيبون، وكانوا في كثير من الأحيان لا يفتون في الأمر؛ لعلمهم أنهم لم يسألوا من أجل الفتوى، ولكن من أجل أن يشغلوا.
والأمثلة في هذا العصر كثيرة جداً في الأشياء التي يُشغل بها العلماء، فمثلاً: عندما جاءوا بمسألة تقنين الشريعة، فاشتغل كثير من العلماء بتقنين الشريعة، فقالوا: المادة الأولى.. المادة الثانية.. المادة الثالثة، ورتبوا الأبواب.. فمن هذا الذي هو مستعد أن يعمل بالشريعة؟! ومن هذا الذي ينقصه من العمل بالشريعة إلا أن تكون مواد قانونية؟! وهل عملوا ببدهيات الشريعة كتحريم الربا وتحريم الزنا؟! فهذه المسائل لا تحتاج إلى تقنين، فهل عمل بها؟! وهل لم يبق إلا مسائل في المعاملات فتقنن؟! ولكن اشتغل الناس بذلك، وشغل العلماء في كثير من بلدان العالم الإسلامي مع الأسف.. لجان تشكل لمناقشة الموضوع، ولجان تنقح، ولجان تطالب... وهكذا؛ وتيار الفساد مستمر، والانحلال مستمر، وهؤلاء مشغولون بذلك.
ولو أنهم اهتموا بالدعوة إلى الله وانصرفوا إلى القيام بها، وإلى تربية الناس عليها، لأخرجوا جيلاً مؤمناً مستعداً للامتثال لأحكام الله، سواء قننت هذه الأحكام أو لم تقنن؛ لأنه جيل صادق ومخلص في امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
فيجب علينا أن نتفطن لمثل هذه الأمور، ونعرف منهج السلف الصالح، ومتى كانوا يجيبون السائل ومتى لا يجيبون.
أقول هذا لأن بعض طلبة العلم يشغل نفسه ويشغل العلماء بسؤال لا ينبغي الالتفات إليه.
وإذا لم تعلم أن هذا السائل يريد أن يعرف دينه، فلا تشغل به، ولا تشتغل غيرك به.
فكم من إنسان يترك الصلاة، ويأكل الربا، ولا يسألك عن الصلاة ولا عن الربا، ولكنه يسألك عن عدد الدراهم التي بيع بها يوسف عليه السلام...!
فلا تدله على أحد المشايخ، ولا تعطه رقمه؛ لأن الوقت -ولا سيما وقت العلماء- ثمين، وربما كان هناك من سيسأل الشيخ في أمر مهم من أمور دينه، وإن العمر قصير، والطاقة الجسدية محدودة.
وأسئلة هؤلاء كثيرة؛ تأتينا في كل وقت، ولكننا نعرض عنها وعن أصحابها.
أما من جاء يسعى وهو يخشى.. من جاء مستفهماً مستعلماً، فهذا لو سافرنا معه إلى العلماء، فما علينا في ذلك من حرج، بل إن ذلك من الدعوة إلى الله ومن التربية على فعل الخير.
ولهذا يقول الإمام أبو بكر ابن العربي : "الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة"، يعني أن يوضحها ويبينها ويفردها دليلاً دليلاً، "وإيضاح سبل النظر"، فيبين طريق النظر.. طريق التفكير وسبيل الاجتهاد، "وتحصيل مقدمات الاجتهاد"، فيبين كيف يمكن أن يحصلها هو، ويبين لغيره أيضاً كيف يمكن أن يحصلها، "وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد"، أي أنه لابد للعالم أو المفتي أن يعرف الأدلة في المسألة، ويستعين بلغة العرب، ويستعين بكلام العلماء ويطلع على أقوالهم، فيكون لديهم الآلة للاستنباط أو للاجتهاد.
وبعد أن تهيأ لذلك، قال: "فإذا عرضت نازلة" أي: واقعة جديدة، يراد أن يعرف حكم الله فيها "أُتيت من بابها، ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها"، هذا هو المنهج الصحيح، أن يشتغل طالب العلم بطلب العلم في القرآن والسنة واللغة العربية، وكلام العلماء والأئمة، ويعد لذلك، فإذا وقعت واقعة، فعليه أن تأتيها من بابها، ويبحث عنها في مظانها، ويجتهد فيها بأسلوب الاجتهاد الذي يكون في مثلها، والله تعالى يفتح وجه الصواب فيها، فإن كان قولك صواباً فلك أجران، وإن كان خطأ فلك أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد.. هذا هو ديننا، لكن أن يقعد الإنسان ويقصر في آلة الاجتهاد ومقدمات النظر، ثم يفكر كيف لو وقع كذا.. أرأيت لو كان كذا وعرفنا حكم كذا.. فإذا جاء كذا، فما حكم كذا؟ فيشتغل بذلك، وهي أمور افتراضية لا تنتهي أبداً. ونضرب مثالاً مما نعايشه في أيام الحج، فكم من وقائع تأتي لم يسمع بها من قبل ويسأل العلماء عنها! وكل المشايخ يقولون: ما سمعنا بهذا ولا قرأنا عنه، وغيرها من الوقائع الكثيرة، فلو شغلنا بالافتراضات لضاع العمر؛ لأن الوقائع نفسها مع الزمن تتجدد كثيراً، فكيف لو اشتغلنا بالافتراضات؟!
لكن إذا وقع الأمر فإنه -كما ذكر رحمه الله- يؤتى من بابه، ويبحث عنه في مظانه، ويفتح الله وجه الصواب فيه.